عن غزة، الكلاب والبشر
أون باراك وإيروس برافرمان
نميل إلى فهم العنف والحرب عمومًا، والكارثة التي تحل بغزة تحديدًا، من خلال منظور يضع الإنسان في مركز الاهتمام. تضم هذه المفاهيم مصطلحات مثل “الجرائم ضد الإنسانية” ومشتقاتها المختلفة – الإبادة الجماعية، قتل المنازل (domicide، تدمير المساحات المنزلية)، تدمير التعليم (scholasticide، القضاء على النظام التعليمي)، وغيرها، والتي بواسطتها يفهم الكثيرون ما يجري حاليًا في قطاع غزة. هذا المنظور، الذي يضع البشر في مركز الاهتمام مهم، ولكنه أيضًا غير كافٍ وغير دقيق، لأنه يطمس حقيقة أن البشر هم جزء لا يتجزأ من بيئة مركبة تشمل كائنات وعوامل أخرى تقبع تحت وطأة هجوم شامل، بما في ذلك تلوث الهواء والتربة والمياه، مما سيؤثر على المنطقة لسنوات طويلة. موازين القوى القائمة بين مختلف عوامل النسيج البيئي – بما في ذلك الحيوانات والبنية التحتية المادية – هي التي تولّد الظروف لوقوع المأساة نفسها. لذلك، كمدخل جانبي لما يصعب فهمه والكتابة عنه مباشرةً، نقترح محاولة رصد غزة عبر ما يحدث للحيوانات هناك، وللكلاب تحديدًا.
فالكلاب – باعتبارها “حيوانات مرافقة” (companion species) – تكشف أن هوية الإنسان وسلوكه يتشكلان إلى حد كبير بالتفاعل مع الكائنات الأخرى. تصيغ هذه الشراكة الفضاء المنزلي وأنماط القوة وحدود مناطق السيطرة في المنزل، وفي الشارع، وفي المدينة. لا يمكن فهم الطرق التي ينظم بها البشر أنفسهم اجتماعيًا، أو أنماط العنف والتعاطف، دون ملاحظة الكائنات غير البشرية التي ترافقهم، وتتأثر بهم، وتؤثر فيهم. تمثل الأسطر التالية محاولة للقيام بذلك، استنادًا إلى دراسة مطولة أجريناها بعنوان “Dogs and Domicide: Lessons from Gaza’s Frontlines of Ruination“. في دراستنا، نظهر أن تدمير المنازل ليس مجرد تدمير للبيئة المبنية، بل هو بمثابة تقويض للمنزل بمعنى أعمق بكثير مما يمكن أن تُوضحه الجدران والأنابيب: منزلٌ بمعنى ما يجعلنا بشرًا، بما في ذلك ويعود ذلك جزئيًا إلى أن الكلاب أصبحت جزءًا لا يتجزأ منه.
بدأت العلاقة بين الكلاب والبشر قبل آلاف السنين منذ بداية التاريخ البشري الرسمي، والذي يُؤرخ عادةً للثورة الزراعية و”تدجين القمح”، عندما تحولت مجتمعات الصيادين وجامعي القوت الى مجتمعات مزارعين مستقرين، أي عندما دُجّن الإنسان نفسه. تكشف الدراسات الأنثروبولوجية والأثرية والجينية أن عملية تدجين الذئاب وتحويلها إلى كلاب لم تكن دمجًا للحيوانات في أطر إنسانية واجتماعية جاهزة، بل كانت خلقًا متبادلًا لهذه الأطر، وخاصةً المنزل. ضمن هذه العملية، تعلم الناس من الكلاب عن علاقات المنطقة والأسرة والتبعية، بشكل لا يقل عما تعلمت الكلاب من “أسيادها”. هذه العلاقات استمرت في التغير والتطور من مواقد أسلافنا إلى يومنا هذا. فعلى سبيل المثال، كانت الكلاب جزءًا من النسيج الحضري في العديد من المناطق، بما في ذلك منطقتنا، حتى منتصف القرن التاسع عشر.
لقد أحدثت الإصلاحات الحضرية وموجات الهجرة من الريف خلال العصر الحديث تغييرات جذرية في طباع الحيوانات التي كانت في السابق هادئة ومحبوبة لدى البشر. احد الادلة لهذه العشرة في منطقتنا أن الجدران الخارجية للعديد من المساجد في القاهرة وإسطنبول ودمشق كانت تحتوي على أحواض شرب ثابتة للكلاب. كما عكس هذا العطف امتنانًا: فقد شاركت كلاب الشوارع، على سبيل المثال، في إزالة القمامة من الشارع وحراسة الحي من الغرباء. ومع ذلك، ونتيجة للصراعات على السيطرة وبقايا الطعام مع السكان الجدد الذين دفعتهم عمليات التحضر إلى المدن الحديثة، أصبحت الكلاب عدوانية وصاخبة، مما شجع على الدعوات لإبادتها. كانت عمليات إغراق وتسميم الكلاب في مدن الإمبراطورية العثمانية قسما من هجوم أوسع على فئات سكانية أخرى سكنت شوارع المدينة، بما في ذلك المتسولين والأيتام والمجرمين والعاطلين عن العمل. كانت إبادة الكلاب ممارسة شائعة خلال فترة الانتداب البريطاني على فلسطين، وقد منحها قانون داء الكلب لعام ١٩٣٤ شرعية قانونية وذريعة إضافية. وواصلت دولة إسرائيل الناشئة، التي اعتمدت القانون البريطاني المذكور، هذا النهج. لذا، في القرن العشرين، رُسِمَ الخط الفاصل بين الكلاب المنزلية، الحيوانات الأليفة المحبوبة، “أفضل صديق للإنسان”، من جهة، والكلاب الضالة، التي اعتُبرت مصدر رعب لمحيطها، وبالتالي كتبت لها الإبادة، من جهة أخرى.
على هذا المحور التاريخي، كيف يُمكننا فهم مكانة الكلاب في هجوم إسرائيل على غزة منذ أكتوبر/تشرين الاول ٢٠٢٣؟ منذ انهيار السياج الحدودي في هجوم حماس في ٧ أكتوبر، بل وأكثر من ذلك مع تفاقم الجوع في القطاع وبدء تدمير مدينة غزة ومحيطها بالقصف الجوي والبحري والبري، بدأت كلاب غزة تعبر الحدود باتجاه إسرائيل. بدأت مجموعات من ٢٥-٣٠ كلبًا غزّيًا، تُعرف بـ”المتوحشة” (والتوحش هو نقيض التدجين)، وبالمجمل مئات أو ربما آلاف الكلاب، بالتجول في جنوب البلاد. أثار هذا الوجود سلسلة من النقاشات بين صانعي القرار ووسائل الإعلام، التي وضعت الكلاب على المحور القديم بين تبنيها وتدجينها والقضاء عليها. ضمت هذه النقاشات أحيانًا إظهارًا للتعاطف مع كلاب غزة وجهودًا مكثفة لإنقاذها: فور دخول القوات الإسرائيلية إلى غزة، ظهرت دعوات عبر وسائل التواصل الاجتماعي الإسرائيلية لتبني الكلاب الموجودة في القطاع، في بادرة إنسانية كشفت في الوقت نفسه عن نزعة جردت سكان غزة من إنسانيتهم وتجاهلت العائلات التي انتُزعت منها بعض هذه الكلاب. دارت هذه النقاشات أحيانًا حول تخصيص موارد للإبادة، وهو ما يتعارض غالبًا مع موقف الأطباء البيطريين، الذين أوضحوا أن محاولات إبادة الحيوانات الضالة غالبًا ما تؤدي إلى زيادة أعدادها.
اندمجت الدعوات للقضاء على الكلاب التي عبرت الحدود مع دعوات وأنشطة لإيذاء سكان قطاع غزة، مما يشير إلى أن الصلة التاريخية بين تدمير الحيوانات البرية (أو تلك التي تم “توحيشها”) والإضرار بالسكان الضعفاء لا تزال قائمة، حيث تتجول قطعان الكلاب البرية في قطاع غزة المدمر نفسه، مما يكشف عن أبعاد إضافية للأزمة. دفع الجوع الشديد في قطاع غزة الناس إلى الاعتماد على علف الحيوانات. فبالإضافة إلى الإذلال والأضرار الصحية التي يسببها ذلك (“لقد أصبحنا كلابًا وقططًا”، كما قال أحد سكان مدينة غزة لبي بي سي)، فإن هذه الحاجة تقلل أيضًا من كمية الطعام المتاحة للكلاب وتدفعها إلى البحث عن بدائل عبر الحدود أو في الشوارع. لذلك، أدّى تدمير البيئة العمرانية والمساحات المنزلية التي كانت تجعل الكلاب سابقًا حيوانات أليفة إلى خروجها إلى الشوارع وتغيير سلوكها.
لم تصبح الشوارع المهدومه مجرد مشهد بصري جديد للدمار، بل أصبحت أيضًا مساحاتٍ تغيرت فيها الأصوات والروائح، والتي تُختبر بحدة بالحواس الحادة لأولئك الذين يمشون على أربع. بينما تدوّي صفارات الإنذار، وأصوات القصف والدخان المتفجر وتخيم في الهواء الأبخرة السامة الأخرى، تتحرك الكلاب في مجموعات وتتنافس مع البشر على بقايا الطعام والمأوى. يصف شهود عيان الكلاب وهي تتغذى على الأشلاء، وقد تم التعبير عن ذلك في وصف الأطفال الفلسطينيين الصغار الذين يخاطبون حيواناتهم الأليفة ويحاولون إقناعها بعدم التهام أجسادهم إذا ماتوا. أصبح الدفن اللائق، الذي يضمن سلامة الجسد البشري، أحد آخر تطلعات سكان غزة. تهدد كلاب القطاع في الوقت نفسه هذا الطموح وتكشف عنه كبعد أساسي من أبعاد الإنسانية – الرغبة في الحفاظ على الجسد من التقطيع والافتراس. في ظل هذه الظروف، يمكن اعتبار استمرار تشغيل عدد قليل من ملاجئ الحيوانات من قِبل الفلسطينيين في قطاع غزة، مثل جمعية “سلالة لإنقاذ الحيوانات”، تشبثًا مُتصلبًا بالإنسانية. أدى تحول الكلاب من حيوانات ذات بيت إلى حيوانات بلا بيت إلى إعادة تنظيم علاقاتها مع البشر في غزة بشكل يتمحور حول القلق على سلامة الجسد، والتنافس على الطعام، والفقدان – فقدان حياتها السابقة داخل الأسرة وفقدان إمكانية تربيتها كحيوان أليف وكجزء من الأسرة في ظل الظروف الحالية.
لا يمكن نسب التغيرات في سلوك كلاب غزة إلى الأيديولوجيا أو اللاهوت، ولا إلى الاحتلال أو الصراع بمفهومها الإنساني. يكشف تحولها خلال الحرب من حيوانات أليفة ودودة إلى حيوانات متوحشة ما يحدث عندما يُدمّر المنزل وعندما تتزعزع بشكل جذري العلاقات الحميمة التي كانت قائمة هناك، بما في ذلك مع الحيوانات الأليفة. تُقوّض هذه العملية التسلسلات الهرمية الأساسية والتمييز بين الإنسان والحيوان، مما يطعن في إنسانية الفلسطينيين. هكذا، فإن الكلاب تساعدنا على النظر الى ما بعد المصطلحات القانونية كقتل المنزل او محو البنية التحتية عديمة الحياة، وفهمها باعتبارها هجومًا على أسس الإنسانية ذاتها.
اون باراك أ.د في قسم تاريخ الشرق الأوسط وأفريقيا بجامعة تل أبيب.
إيروس برافرمان أ.د في القانون والجغرافيا وباحثة في شؤون البيئة والاستدامة بجامعة بافالو. يتناول كتابها الأخير، Settling Nature: The Conservation Regime in Palestine-Israel (University of Minnesota Press, 2023)، استخدام المتنزهات الوطنية وحماية التنوع البيولوجي كذريعة لتحقيق أطماع الاستعمار الاستيطاني.