وحيدون ومعرضون للخطر: الأزمة الخفية للأطفال المتروكين وحدهم في غزة
د. شولميت بينشوفر
كان أحمد شبات في الثالثة من عمره فقط عندما سقطت قنبلة على منزله في بيت حانون منتصف نوفمبر/تشرين الثاني 2023، مما أسفر عن مقتل والديه وشقيقه الأكبر. القى به الانفجار على بعد حوالي 20 مترًا من الأنقاض، حيث وُجد وحيدًا، جريحًا، مجهول الهوية. صنّفه الطاقم الطبي تحت اسم جديد قاتم يزداد شيوعًا في مستشفيات غزة: WCNSF – طفل جريح بلا عائلة على قيد الحياة. فقد أحمد ساقيه جراء الانفجار. بعد بضعة أيام، تعرّف عليه عمه، الذي انطلق للبحث عن أقارب ناجين. سافر أحمد في النهاية إلى إيطاليا لتلقي العلاج الطبي وبدء رحلة طويلة من التعافي الجسدي والنفسي.
قصة احمد من القصص القليلة التي يُمكن تتبعها. بالنسبة لمعظم الأطفال الذين تُركوا بمفردهم في غزة، لا يُمكن العثور إلا على شذرات من المعلومات – هم يذكرون في سجلات الأطباء أو منشوراتهم، أو مقاطع فيديو قصيرة، أو أسماء ذكرها الجيران. إن حجم الأزمة، بالإضافة إلى العنف المستمر وانهيار البنية التحتية الأساسية، يجعل توثيق وتتبع القصص الكاملة للأطفال الذين تُركوا بمفردهم كأيتام من شبه المستحيل.
حالة أحمد استثنائية في تفاصيلها، لكنها ليست استثنائية فيما تمثله. فاعتبارًا من أوائل عام 2024، قدر اليونيسف أنه ما لا يقل عن 17,000 طفل في غزة تُركوا بمفردهم أو انفصلوا عن والديهم. ومع ذلك، لم يتم تحديد هوية وتسجيل سوى 384 طفلًا رسميًا خلال تلك الفترة، لأن الكثير منهم كانوا أصغر من أن يقدموا معلومات تعريفية. تحذر الوكالات الإنسانية من أن العدد الحقيقي لهؤلاء الأطفال يرجح أن يكون أعلى من ذلك بكثير، نظرًا للوفيات الجماعية والنزوح المتكرر وتدمير البنية التحتية وانهيار شبكات الاتصالات. كل هذا يجعل تتبع عائلات الأطفال شبه مستحيل. تشير بعض التقارير إلى أن نسبة الأسر التي ترعى حاليًا أطفالًا غير أطفالها تبلغ 41%، مما يشير إلى أن الإحصاء الرسمي قد يكون أقل من تقدير حجم هذه الظاهرة.
وصف الدكتور عز الدين، طبيب أطفال في غزة، هذا الواقع بكل ما فيه من قسوة: “أواجه يوميًا في العيادة حقيقةً مؤلمةً تُزلزل قلبي. كثيرٌ من الأطفال الذين يأتون للعلاج يرافقهم بالغون، رجالًا كانوا أم نساءً، ينظرون إليّ بعجزٍ عندما أسألهم عن تاريخهم الطبي. إجاباتهم دائمًا هي نفسها، ولا يُصبح سماعها أسهل: “هؤلاء الأطفال ليسوا أطفالنا. إنهم أبناء وبنات إخوة أو أقارب رحلوا عنا، قُتل اهلهم”.”
يعيش هؤلاء الأطفال، وهم في الغالب أيتام، او مُنفصلون قسرًا عن أهلهم، أو تُركوا خلفهم، دون رعاية شخص بالغ مسؤول عنهم قانونيًا أو عرفيًا. في الملاجئ المكتظة أو المستشفيات أو المخيمات المؤقتة، يواجهون مخاطر جسيمة من الإيذاء والإهمال والاستغلال الجنسي وعمالة الأطفال والاتجار بالبشر والصدمات النفسية المُزمنة.
يُقرّ القانون الإنساني الدولي بهذا الضعف: المادتان 24 و50 من اتفاقية جنيف الرابعة (1949) تُلزم أطراف النزاع بضمان رعاية وتعليم وحماية الأطفال دون سن الخامسة عشرة الذين تيتموا أو انفصلوا عن عائلاتهم. لكن في الممارسة العملية، غالبًا ما لا تُحترم هذه الحماية. وتزداد حالات العنف ضد الأطفال أثناء النزاعات المسلحة والكوارث الطبيعية. وكما يُظهر صديقي وزملاؤه، فإن الأزمات تزيد بشكل كبير من خطر تعرض الأطفال لأشكال متعددة من إساءة المعاملة، بما في ذلك الاعتداء الجسدي والجنسي، والإهمال، والعنف العاطفي، حيث تتزايد هذه المخاطر مع تفكك الأسر، وانهيار أنظمة حماية الطفل الرسمية، واختفاء شبكات الأمان غير الرسمية.

تُجسّد الحرب الدائرة في غزة هذا الانهيار. يصفها خبراء الأطفال بأنها من أخطر انتهاكات حقوق الطفل، إذ تُسبب صدمات نفسية واسعة النطاق، ووفيات كان من الممكن تجنّبها، وتدميرًا للبنية التحتية الحيوية، تاركةً آلاف الأطفال دون رعاية أو حماية. في ظلّ النزوح والحرب، تتداعى حياة الأطفال غير المصحوبين بذويهم بصمتٍ وبطرقٍ مُدمّرة. الفتيات والفتيان الصغار مُعرّضون بشكلٍ خاصّ للاعتداء والاستغلال الجنسيّين، لا سيّما في الملاجئ المكتظّة التي تفتقر إلى الخصوصية وسوء الصرف الصحي. يُجبر الكثيرون على التسول أو الدفع بطرقٍ مُختلفة لتلبية احتياجاتهم الأساسية، مما يُعرّضهم لخطرٍ متزايدٍ للاتجار بالبشر.
حتى عند استضافة عائلاتٍ أخرى، لا يكون الأطفال غير المصحوبين بذويهم والمنفصلين عنهم آمنين دائمًا. قد يواجهون الإيذاء الجسدي والنفسي والإهمال، ويُجبرون أحيانًا على القيام بأعمالٍ خطرة. يُرسَل العديد من الأطفال، وخاصةً الفتيان، لجمع الطعام أو الماء، غالبًا في مناطق مليئة بالذخائر غير المنفجرة. تُوثّق العديد من مقاطع الفيديو من غزة كفاح الأطفال اليومي من أجل البقاء على قيد الحياة في هذه الظروف. يُظهر مقطع فيديو، نُشر في 9 حزيران 2025 أطفالًا فلسطينيين، بعضهم لا يتجاوز عمره أربع أو خمس سنوات، يجمعون بقايا الطعام من الأرض. ويُظهر مقطع فيديو آخر، نُشر في 14 حزيران 2025 صبيًا فلسطينيًا يجمع الطعام المسكوب في حاوية المهملات. ويُظهر مقطع فيديو ثالث، نُشر في 21 تموز 2025 أطفالًا يبحثون عن الطعام والوقود وحدهم بين أنقاض شارع مُدمر. تُسلط هذه المشاهد الضوء على مدى ترك هؤلاء الأطفال للاعتماد على أنفسهم وسط أنقاض الحياة اليومية.
يلجأ أطفال آخرون إلى أنشطة غير قانونية – بدافع الضرورة، كآلية للتكيف، أو لدعم عائلاتهم المُضيفة. كما أن الأولاد الذين تُركوا بمفردهم معرضون بشكل متزايد لخطر التجنيد في الجماعات المسلحة. فبدون حماية، قد يعملون كمقاتلين أو مستطلعين أو أنهم يُشاركون في الدعم اللوجستي، وهي أدوار تُعرّضهم لخطر جسدي جسيم وأذى نفسي طويل الأمد. بدون وثائق سليمة أو إمكانية الوصول إلى أنظمة الرعاية الاجتماعية الرسمية، يُوضع بعض الأطفال في ترتيبات غير رسمية لا توفر أي حماية قانونية. قد تؤدي هذه الحالات إلى التبني غير القانوني أو فقدان الهوية بشكل لا رجعة فيه، مما يفصل الأطفال عن عائلاتهم وجذورهم الثقافية.
في غياب مقدم رعاية وقائي، قد يسبب التعرض للإساءة والعنف ضائقة نفسية عميقة لدى العديد من الأطفال في غزة. ويبرز الاضطراب العاطفي والانطواء وصعوبة تكوين العلاقات بشكل خاص لدى الأطفال الذين تُركوا بمفردهم كأيتام. تصدرت ورد، وهي فتاة في الخامسة من عمرها، عناوين الصحف بعد انتشار فيديو لها وهي تركض عبر المدرسة المحترقة التي كانت عائلتها تلجأ إليها. عندما وصل رجال الإنقاذ، وجدوها جالسة بهدوء، لا تتكلم ولا تصرخ. قُتل ستة من أفراد عائلتها في الغارة الجوية، واثنان في حالة حرجة. وهي الآن مع عائلة عمها. تعكس حالتها ما يحذر منه علماء النفس بأنه مجرد بداية للصدمة طويلة الأمد التي سيعاني منها العديد من الأطفال حتى سن البلوغ.
توقفت أنظمة حماية الطفل الرسمية في غزة عن العمل تقريبًا. ويعاني الأخصائيون الاجتماعيون وأخصائيو دعم الأسرة والصحة النفسية من محدودية شديدة في الوصول إلى الخدمات والموارد. وفقًا للجنة الإنقاذ الدولية، بحلول نهاية أغسطس/آب 2024، بقي بعض الأطفال المصابين في المستشفيات، ليس لأنهم كانوا في مرحلة تعافي، بل لعدم وجود من يعتني بهم. ورغم هذه التحديات، تتواصل الجهود من خلال برامج محدودة للرعاية البديلة، وتوزيع الخيام على العائلات، وتدريب العاملين الميدانيين على التدخلات التي تراعي الصدمات. ومع ذلك، لا تزال القدرة على تحديد مكان الأطفال ولمّ شملهم مع عائلاتهم محدودة للغاية. فالسجلات المدمرة، والاتصالات المتقطعة، والقيود المفروضة على الحركة تجعل تتبع الأقارب والتحقق من الهويات شبه مستحيل. وحتى أوائل عام 2025، لم يُلمّ شمل سوى حوالي 100 طفل مع مقدمي الرعاية أو أقاربهم، مما يجعل حالة أحمد استثناءً خارجًا عن المألوف.
تتطلب الأزمة التي يواجهها الأطفال غير المصحوبين بذويهم في غزة تحركًا عاجلًا ومنسقًا. إن وقف إطلاق النار الدائم هو السبيل الوحيد لحماية الأطفال من المزيد من الأذى الجسدي والنفسي. ولا يمكن لأي نوع من الحماية الهادفة أن يتجذر ويثبت دون الأمن والاستقرار. في الوقت نفسه، يجب تكثيف الجهود لتحديد وتسجيل جميع الأطفال الذين تُركوا بمفردهم أو انفصلوا عن ذويهم، وتوفير بيئات آمنة وخاضعة للإشراف، تشمل رعايةً تراعي الصدمات النفسية، ومراقبة ودعم مقدمي الرعاية غير الرسميين الذين يوفرون لهم المأوى. ولا يقل أهميةً عن ذلك توفير السبل القانونية للحماية ولمّ شملهم مع أفراد أسرهم الناجين، وتوفير خدمات الصحة النفسية لمعالجة الجروح النفسية العميقة التي تخلفها الحرب.
د. شولميت بينشوفر هي باحثة ومحاضرة في مجال الطفولة المبكرة، النمو، والعلاقات بين الوالدين والطفل، والأنظمة التعليمية والصحية للأطفال والأسرة.
لقراءة المزيد:
Latif, I. et al. (2025). Cases of trauma due to war and violence among children in Gaza. EMHJ, (4), 210–215. https://doi.org/10.26719/2025.31.4.210.
Taha, A. A., Azar, N. G., Fookson, M., & Ali, A. (2024). A call to action for children in hostile war-torn conflict zones: From Palestine, Ukraine and Beyond. Journal of Pediatric Health Care, 38(3), 296-297.
Wendt, U. J. (2025). Children are bearing the brunt of violence in Gaza. BMJ, 388, r39.https://doi.org/10.1136/bmj.r39
Boukari, Y., et al. (2024). Gaza, armed conflict and child health. BMJ Paediatrics Open, 8(1), e002407. https://doi.org/10.1136/bmjpo-2023-002407
Aqtam I. (2025). A narrative review of mental health and psychosocial impact of the war in Gaza. Eastern Mediterranean health journal, 31(2), 89–96. https://doi.org/10.26719/2025.31.2.89